B]قال تعالى : {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}(4)الإسراء
والإفساد في الأرض هو إظهار أنواع الفساد والفجر والمخالفات، وقيل الفساد هو قتل الأنبياء، والأرض ،قيل أرض الشام أو أرض مصر، وقيل الأرض المقدسة، وقد تعنى أيَ أرض أو حتى ربما كلَّ الأرض في وقت ما
وفى المرتين اختلافات عديدة وأراء كثيرة، أوردها العلماء الأفاضل في كتب التفسير، ونجملها فنقول أن المرة الأولى من الإفساد هي تغيير التوراة، وقيل بل هي مخالفة أحكام التوراة. ومن قالوا أن الفساد قتل الأنبياء، قالوا المرة الأولى هي قتل زكرياء عليه السلام، وحبس أرمياء عليه السلام، وقيل قتل شعياء، وقتل أرمياء أو حبس أرمياً وجرحه حين أنذرهم سخط الله إذ وعظهم وبشَّرهم بنبينا صلى الله عليه وسلم؛ وهو أول من بشر به صلى الله عليه وسلم بعد بشارة التوراة
والأخرى أو الثانية هي قتلُ زكريا ويحيـى، ومن قال إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيـى عليه السلام، ويضيفون عزمهم أو قصدُ قتلِ عيسى عليه السلام.
قيل كان بين الفاسدين مائتا سنة وعشر سنين، وقيل مائة وعشرون وفى التحرير والتنوير أن هذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين، حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين.فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي، وهي غزوات بختنصر مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم، والغزو الأول كان سنة 606 ق م، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول ثم غزاهم بالأسر الثاني وهو أشدُّ من الأول، كان سنة 598 ق م، وأسَرَ ملكَ يهوذا والكثير من الإسرائيليين وأخذ الذهب هيكل سليمان ونفائسه، والأسر الثالث المهلك سنة 588 ق م غزاهم بختنصر وسبى كل شعب يهوذا، وأحرق هيكل سليمان، وبقيت أورشليم خراباً يباباً ثم أعادوا تعميرها
أما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين
وقال الجبائي رحمه الله إن اللـه تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين تفصيل ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر
سبب قتلهم زكريا عليه السلام فإنهم لما حملت مريم اتهموه بها وقالوا ضيَّع بنت سيدنا حتى زنت فطلبوه فهرب منهم، فانفتحت له شجرة فدخل فيها وبقي طرف ثوبه خارجاً من الشجرة، فجاءهم الشيطان فدلَّهم عليه، فقطعوا الشجرة بالمنشار وهو فيها
وقيل بل لما مات ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضاً ولم يسمعوا من زكريا نصحاً، فأمره اللـه تعالى أن قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ مما أوحى عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فدخل الشجرة فقطعوه، وورد أيضاً أن زكريا مات حتف أنفه ولم يقتل
سبب قتلهم شعياء عليه السلاموأما السبب في قتلهم شَعْياء فهو أنه قام فيهم برسالة من الله ينهاهم عن المعاصي وقيل هو الذي هرب منهم فدخل في الشجرة حتى قطعوه بالمنشار، لأن زكريا مات ولم يقتل -عن أصحاب هذا الرأي
سبب قتلهم يحيى بن زكريا عليه السلامقيل لأن ملكهم أراد نكاح بنتاً أو امرأة لا تحل له أبنته، أو ابنة أخيه، أو امرأة أخيه، وكانت لا تحل لهم، وقيل ابنة امرأته، فسأل يحيى فنهاه عنها؛ فقتله الملك
وقيل لما نهاه يحيى عن نكاحها، حنقت أمها على يحيى، وعمدت إلى ابنتها فزينتها وأرسلتها إلى الملك ساعة شرابه، وأمرتْها أن تسقيَه وتغريه بها، فإِن أَرادها على نفسها، أَبت حتى يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت، ففعلت، فقال ويحك سليني غير هذا، فقالت ما أريد إلا هذا، فأمر، فأتي برأسه والرأس يتكلم ويقول لا تحل لك، لا تحل لك
وقيل ما زال دم يحيى يغلي حتى قتل عليه من بني إسرائيل سبعون ألفا، فسكن، وقيل لم يسكن حتى جاء قاتله، فقال أنا قتلته، فقُتِل، فسكن، وقيل أغرب من ذلك
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } وأصل معنى العلو الارتفاع فهو ضد السفل، وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم أي لَتَعَظَّمُنَّ أو لتستكبرن عن طاعة اللـه تعالى، وَلَتَبْغُنَّ، ولتفجرن، أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطاً مجاوزاً للحد
وهذا العلو الكبير لا يوجد له حدٌ أو توصيف فهو من غيوب الله، ولكنه يكون في الحالتين وفى الفاسدين الذين يظهرهما بنو إسرائيل، أو فى جميع الإفسادات التي يظهرونها، وهو يزيد وينقص بحسب الحالة أو الزمن الذي يظهر فيه الفساد أو يعلون فيه
[/B]